ليكيب نيوز
جاء خطاب العرش الأخير، الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربعه على العرش، كوثيقة سياسية بامتياز، تؤسس لتحوّل نوعي في فلسفة الحكم بالمغرب. ففي زمن التحولات الجيوسياسية والرهانات الاقتصادية والاجتماعية المركبة، رسم الخطاب ملامح “ملكية الفعل والعمل”، التي لا تكتفي بالتقييم والتشخيص، بل تؤمن بأن الزمن السياسي هو زمن الإنجاز الملموس والقرب من انتظارات المواطن.
المنتصر السويني، الباحث في العلوم السياسية والمالية العامة، قدّم قراءة معمّقة لخطاب العرش، مؤكداً أن مضامينه تؤسس لمرحلة جديدة من الحكم، تقوم على ثلاث ركائز رئيسية: مركزية الفعل كجوهر للحكم، الانتقال نحو جهوية متقدمة تجعل المواطن في قلب السياسات العمومية، والتحديث المستمر لأدوات الخطاب السياسي ولغة التواصل مع الشعب.
من “السلطة العمودية” إلى “ديمقراطية القرب”
يُبرز التحليل أن الخطاب الملكي تجاوز منطق السلطة العمودية التقليدية، ليُرسّخ فلسفة الحكم القائم على القرب من قضايا الناس، وعلى التفاعل مع متطلبات الجهات. فالتشديد على احترام الآجال الانتخابية، وعلى استباق التحولات الاقتصادية والاجتماعية بمنهجية عمل واقعية، يؤشر على رؤية متجددة للحكم، تتجاوز منطق التسيير إلى منطق الشراكة مع المواطن.
الملكية في خطاب العرش قدمت نفسها كضامن لفعلية العمل السياسي، وكفاعل مركزي في تطوير النموذج التنموي الجديد، بما يضمن الارتقاء بالمغرب إلى مصاف الدول الصاعدة، دون التفريط في توازناته الاقتصادية والاجتماعية.
دولة الجهوية المتقدمة .. من الشعار إلى التنفيذ
رسائل الخطاب الملكي ركزت بشكل غير مسبوق على ضرورة الانتقال من الدولة المركزية إلى دولة الجهوية المتقدمة، من خلال تأهيل المجالات الترابية وتدارك الفوارق المجالية والاجتماعية. وهو ما يعكس وعياً ملكياً عميقاً بأن رهانات التنمية المستدامة لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تمكين الجهات، وتعزيز الحكامة الترابية، وإعادة توزيع الموارد بعدالة وفعالية.
فن الحكم بين “استراتيجية في نفس الوقت” وإبداع الحلول المالية
أبرز التحليل أن الملكية اليوم مطالبة بإبداع حلول سياسية ومالية قادرة على التعامل مع تعقيد التحديات. وهو ما عبر عنه الخطاب الملكي حين شدد على ضرورة الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية، وفي الآن ذاته، الاستجابة لمطالب الشعب الكلي. إنها مهمة تفرض، حسب السويني، ذكاءً سياسياً ومحاسباتياً من مستوى عالٍ، وتستلزم دمج المتناقضات ضمن مشروع مجتمعي موحد.
مغرب لا يمشي بسرعتين
إحدى الرسائل القوية التي حملها الخطاب الملكي هي القطع مع فكرة “مغرب بسرعتين”، عبر الدفع نحو عدالة مجالية واجتماعية تجعل كل الجهات تسير بنفس الإيقاع نحو التقدم. فالمغرب الجديد، كما يريده محمد السادس، بلد يرفض البطء المؤسساتي ويؤمن بأن “السمو الملكي” لا يعني البيروقراطية، بل يُحتّم السرعة في الإنجاز والتنزيل.
الالتزام بالحداثة الديمقراطية
خطاب العرش أعاد التأكيد على احترام المواعيد الانتخابية، وعلى أن الإرادة الشعبية هي المحدد الرئيسي لمسار الحكم التنفيذي. وهو ما يعزز مصداقية المغرب الديمقراطية، في ظل سياق إقليمي متوتر، ويؤكد أن المؤسسة الملكية هي الضامن الأول لاحترام الدستور والتوجه الديمقراطي.
اليد الممدودة للجزائر .. رسالة الحكمة
ولم يفت الخطاب الملكي أن يجدد الدعوة إلى الجزائر لفتح حوار صريح ومسؤول حول القضايا العالقة بين البلدين، في إطار من الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة. وهي دعوة تعكس حرص الملك محمد السادس على ترسيخ السلم الإقليمي، وعلى أن تظل المملكة في مصاف الدول التي تُدار فيها الأزمات بالحكمة والرؤية الاستراتيجية.
الخلاصة: “ملك يرتدي بذلة الأمل”
في زمن كثرت فيه الخطابات الشعبوية واليائسة، جاء خطاب العرش الأخير بمثابة إعلان ثقة في المستقبل، وتأكيد على أن المغرب، بقيادة محمد السادس، قادر على رفع التحديات وصناعة تحولاته بنَفَس الإصلاح والعمل الميداني. فهو خطاب يرفض لغة التشاؤم، ويرسم أفقاً واقعياً لكن متفائلاً، يجعل من كل مواطن فاعلاً في مشروع بناء مغرب جديد.